كلمة رئيسة المركز التربوي للبحوث والإنماء
الدكتورة ندى عويجان
في حفل اطلاق الدليل التربوي:
دور المسيحيّة والاسلام في تعزيز المواطنة والعيش معا
السبت 20 أيّار2017 في أوتيل هيلتون / حبتور
الجلسة الثانية: المسؤوليّة التربويّة للأديان في تعزيز المواطنة والعيش معا
فخامة الرئيس/ أصحاب المعالي / أصحاب السعادة / أصحاب الفضيلة / وحضرة الخبراء / أيها الحضور الكريم
قد يبدو مستهجناً أن نبذلَ جهوداً جبّارة لإدارة التنوّعِ الديني في وطن لا تتعدّى مساحته 10.500 كلم2، ويبلغُ عددُ سكانِه ثلثَ عددِ متحدّريه المنتشرين على مدى الكرة الأرضيّة.
وطنٌ ينخرط أبناؤه حيثما وجدوا خارجه، في أوطانهم الثانية، في الحياة السياسية والاجتماعيّة والثقافيّةً والاقتصاديّة، ويَصعُبُ عليهم الانخراط بفاعليّة في أحضان وطنهم الام!
مواطنون يترعرعون على أرضِ الوطن، متقوقعين، متعثّرين عاجزين عن تشييد هويّة وطنيّة جامعة، ينتمون إليها ويفتخرون بها.
مواطنون يجهلون بعضهم البعض. ينحصر انتماؤهم من خلال طوائفهم، فامّا يخضعون لها في مختلف أمورهم الدينيّة والدنيويّة، أو يرفضونها ويتحولوّنَ عنها فيضيعون في فضاء اللاإنتماء؛ وفي الحالتين النتيجةُ بعيدةٌ كلّ البعد عن الانتماء الى الهويّة اللبنانيّة الوطنيّة الجامعة.
قد يبدو مستغرباً، بعد مرور أكثر من عشرين عاماً على خطة النهوض التربويّ التي وضعت أُسُسَ مناهجِنا التربويّة على عدّة مرتكزاتٍ وأبعاد صلبةٍ وواضحة، أن يحتاج هذا الوطن بالذات، إلى مناهج رديفة لمنهجه الرسمي، من أجل تعزيز مواطنيّة مواطنيه، ليتعلّقوا بوطنهم الأمّ، ويتمسكوا بهويتهم الوطنيّة وبانتمائهم للبنان.
في خضم هذا المخاض، يفرحُنا أن نجدَ من ينشطُ، من خلالِ التربيةِ، للنهوضِ بالمواطنةِ في لبنان إلى مصافِ المواطنيّةِ التشاركيّة، المواطنيّةِ المستندةِ إلى قيمِ العدلِ، واحترامِ القوانين، إلى الأمانةِ، والتكافلِ والتضامنِ، إلى قبولِ الآخرِ، والعفوِ والغفرانِ، المواطنيّةِ الساعيّةِ إلى تغليبِ الخيرِ العامِ، إلى مواطنيّةٍ تحرّرُ وتبني جسورَ التلاقي بين متنوّعين متميّزين تجمعُهم كرامةُ الانسان وحرّيةُ الضمير.
ويفرحنا أيضا أن يواكب إطلاق هذا الدليل التربويّ لتعزيز المواطنة والعيش معاً، التحضيراتِ الجاريةَ لتطويرِ مناهجِنا الرسميّةِ من خلال تحديثِ أطر مناهج تربويّة قيميّة وفقَ رؤيةٍ متقدّمةٍ تلائمُ متطلباتِ الألفيةِ الثالثة.
ولأن التربية والمؤسسات التربويّة تعنى ببناء الانسان والمواطن، أعد المركز التربوي للبحوث والإنماء عام 1994 خطة النهوض التربوي التي كان من المتوقع أن ترسم الإطار التوجيهي العام وخطط العمل. تمحورت هذه الخطة حول ثلاثة أبعاد: الأبعاد الفكرية والإنسانية، الأبعاد الوطنية، والأبعاد الاجتماعية. وتضمنت العديد من المواد التي تتلاقى في مجملها مع قيم الحياة العامة التي حددها هذا الدليل. أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
- الإيمان بلبنان وطناً للحرية والديمقراطية والعدالة التي يكرّسها الدستور اللبناني وتحددها القوانين وتصونها.
- الإيمان بالقيم والمبادئ الإنسانية التي تحترم الإنسان وتقيّم مكانة للعقل وتحض على العلم والعمل والأخلاق.
- نظرة اللبنانيين إلى معنى الوجود تنبع أساسا من الأديان السماوية، والتراث الروحي في لبنان المتمثل في الديانات التوحيدية، تراث ثمين يجب صونه وتعزيزه. ولذا لبنان موطن نموذجي للتفاعل الحضاري والانفتاح الروحي والفكري ومناقض للأنظمة والعقائد التي تقوم على التمييز العنصري والتعصب الديني.
- لبنان وطن سيد حر مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه... يدين أبناؤه بالولاء التام له في إطار وحدة سياسية جامعة.
- لبنان جمهورية تقوم على احترام الحريات العامة، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل،
- سيادة القانون على المواطنين جميعاً هي الوسيلة لتحقيق العدالة والمساواة بينهم،
- احترام الحريات الفردية والجماعية التي كفلها الدستور اللبناني ونصت عليها شرعة حقوق الإنسان، ضرورة حيوية لبقاء لبنان،
من الأبعاد التي سبق ذكرها، انطلقت بعض الأهداف التربوية العامة التي تركّزت على تكوين المواطن:
- المعتز بوطنه لبنان وبالانتماء إليه والولاء له، المعتز بهويته وانتمائه،
- المتمسك بالقيم والأخلاق الإنسانية،
- المدرك أهمية العيش المشترك بين المواطنين كافة إذ "لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك،
- المتفاعل والمتعاون مع أبناء الوطن، والعامل على توطيد روح السلام، وغيرها.
إنّ نظرةَ المركزَ التربويِّ اليوم، للمتعلّم اللبناني تنطلقُ من حاجاتِ مواطنِ القرن الواحد والعشرين للانفتاح على العالم مع المحافظة على هويّتِه وثقافته وقيمه الانسانية والاجتماعية،
وحاجتُه للتفاعلِ مع الاخر مع احترامِ خصوصية كل منهم،
حاجتُه للتضامنِ مع قضايا الانسان بعدل وأمانة،
حاجته للحصول على المعرفة ولاستعمال التكنولوجية الرقميّة بوعي وادراك،
حاجته لاستيعاب مبادئ التنمية المستدامة وتطبيقها، لما فيها للخير العام،
حاجته لإنتاج المعرفة بدل الاكتفاء باستهلاكها، واكتساب المهارات التي يحتاجها كي يكون مواطناً فاعلا في هذا العالم.
إنّ تحديد سماتِ المتعلّم في القرنِ الواحدِ والعشرين، هي بذاتها مهمّة استشرافيّة تربويّة، تلاقي حاجة لبنانَ الوطن إلى استعادةِ لحمةِ أبنائه، وإعادةِ إرساءِ قواعدَ الحوارِ البنّاء، والتعرّف على خصائص الاخر المختلف وإنتاجِ ثقافةٍ لبنانيّة يغنيها التنوعُ، وتغني البيئة الإقليمية المحيطة، فتصبحُ نموذجاً يحتذى، في عصرِ الفضاءِ المفتوح على شتى أنواعِ التعدديّة، المتنافرةِ منها والمتحاورة.
وعليه، يتطلّع المركز التربوي من خلال تطوير المناهج اللبنانية نحو مناهج تفاعلية تلبّي هذه المتطلّبات من خلال تحديد ملامح متعلّم الغد، ابن عصر التواصل والانفتاح والعولمة.
من هنا ينطلق تفكيرنا في رسم سمات متعلّمٍ قادرٍ على التحليلِ والاختبارِ ومحفَّزٍ للتعلّم مدى الحياة، متقنُ لقواعدَ المحاسبة. متعلّمٌ ناشطٌ، تأملي، تعاونيٌ وتشاركي، استقصائيٌ ومفكرٌ ناقد، مسالم دون أن يكون مستسلم.
نطمح إلى تكوينِ مواطنٍ فاعلٍ، يفتخرُ بانتمائه للبنان الوطن، يقدّرُ الروابطَ الأسرية والعائلية والمجتمعيّة، يحترمُ القوانينَ والأنظمة ويلتزمُ المبادئَ الأخلاقيةَ والإنسانيةَ العامة، يحافظُ على الذاكرةِ الجماعيةِ ويصنع انطلاقاً منها تاريخاً يشرّفُ الأجيالَ القادمةَ، ويصونُ التراثَ الوطنيَّ ويسعى لإغنائهما مساهماً في تطويرِ الحضارة العالمية،
نطمح إلى إعداد مواطن مسائل، يرفض الفساد والعنف والجهل، وينشط في سبيل إرساء منظومة من الشفافيّة، تعزّز الحوارَ والديمقراطيّةَ وتحمي الحريات الشخصيّة والعامّة وتؤمّن السلامَ المجتمعيَّ والسياسيَّ والوطنيَّ.
نريدُ أن تكونَ غايةُ التربيةِ الأولى والأسمى إعدادَ مواطنين ملتزمين الولاءَ لهويتِّهم اللبنانيّة أولاً، واعين لواجباتهم الوطنيّة ومدافعين عن حقهم بالعيش معاً على مساحة أرضِ الوطنِ، ساعين يداً بيدٍ لبناءِ دولةِ الحقِّ وتجديدِ العقدِ الاجتماعيّ والسياسيّ على أسس ثابتة تحفظ الكرامة الانسانيّة وتحترم التنوّع. وهذا العقد الاجتماعي والسياسي لا بد أن يبدأ أولا من خلال التعرف على الاخر وثقافته وهواجسه. والارتكاز على الاهداف والقيم المشتركة لتدعيم بناءه. ولتكن الاديان مداميكنا الاساسيّة في تعزيز المواطنة والعيش معا.
فالإنسان قيمة بذاته، عقل وضمير وكرامة وحريّة وحق!
والانسان المواطن هو غاية التربية ومحورها!