اعتبر المركز التربوي للبحوث والانماء أن هناك تحديات كبيرة ومعقدة ترافق معادلة البكالوريا الدولية بالبكالوريا اللبنانية، كون برنامج البكالوريا الدولية يحتكم إلى إطار مرجعي متعلق بتصميم مواد وآليات تقويم تختلف كثيرًا عن تلك التي تحددها المناهج الوطنية.
واعتبر كذلك، أنّه في الوقت الراهن ترافق هذه المعادلة معوقات، قد تصبح فرص تخطيها أكبر مع تطوير المناهج الوطنية.
وفي حال اتخاذ قرار جدي باعتماد المعادلة فيجب أن تؤخذ بعين الإعتبار جميع الإشكاليات والهواجس، بشكل خاص تلك المتعلقة بالشؤون الوطنيّة والتربويّة والاجتماعيّة والاقتصادية، وأن يصار إلى تحضير المستلزمات اللازمة للتطبيق قبل الاعتماد.
أجرت الهيئة الاكاديميّة المشتركة في المركز التربوي للبحوث والإنماء، دراسة أوليّة لمقارنة برنامج البكالوريا الدولية بالمناهج اللبنانية المعتمدة، تناولت فيها ملمح الخريج، الأهداف العامة، مقاربة استراتيجيات التعليم والتعلّم، نظام التقويم بشكل عام والمواد المختلفة، وشملت الصفين الثانوي الثاني والثانوي الثالث بفروعه كافة، بهدف دراسة امكانية معادلة البكالوريا الدولية بالبكالوريا اللبنانية. تبيّن نتيجة الدراسة أنّه توجد معوقات تربوية وهواجس وطنية، وانعكاسات اجتماعية-اقتصادية تعترض هذه المعادلة.
فبعد عرض موسّع قام به فريق متخصص عن برنامج البكالوريا الدولية في لبنان، بحضور رؤساء الأقسام الاكاديمية في المركز التربوي، بدأ فريق بحثي أكاديمي بدراسة بعض الوثاق والبحوث التربوية المتعلقة بالموضوع، وأصدر تقريراً أولياً بهذا الاطار رفعه إلى رئيسة المركز التربوي التي رفعته بدورها الى معالي وزير التربية والتعليم العالي. هذا التقرير اعتمد مقاربة وصفيّة ومنهج مقارنة تحليلية. أهم ما جاء فيه نقاط التقارب والتباعد بين برنامج البكالوريا الدولية والمناهج اللبنانية المعتمدة لجميع المواد، شرح لبعض الهواجس والتحديات التي يمكن أن ترافق هذه المعادلة والتي يمكن تقسيمها الى ثلاثة أبعاد أساسيّة: البعد الوطني، البعد التربوي، والبعد الاجتماعي – الاقتصادي.
1- أكّد الباحثون أن المناهج الوطنيّة تبنى بالأساس على سياسة تربوية، يتم تفصيلها في ملمح المتعلم/المواطن ومن ثمّ في غايات وأهداف عامة، تتم ترجمتها من خلال مضامين تعلميّة وطرائق تدريس وأسس تقويم، فإن أي طرح لإمكانية أي معادلة يثير إشكاليات تتخطّى حدود تدريس وتقويم المحتوى التعليمي.
2- ولفتوا إلى أنّ المناهج اللبنانية ركّزت على الهويّة اللّبنانيّة وفرادتها وعلى قضيّة المواطنة والهويّة الوطنيّة والانتماء العربيّ والمنظومة القيمية لمجتمعنا اللبناني ومحيطنا العربي. في حين أنّ برنامج البكالوريا الدولية يركّز على المواطن العالميّ. وبالرّغم من أهمّيّة العولمة، يطرح هذا الأمر أمامنا تساؤلات حول مدى تأثير هذا البرنامج على الانتماء الوطنيّ ومفهوم المواطنة بشكل خاص والانتماء العربي بشكل عام.
3- وبناء عليه، طرحت مسألة في غاية الأهمية تتعلق بامكانيّة تضمّن برنامج البكالوريا الدولية قضايا تناقض الدستور اللبناني والقوانين المرعية الإجراء (قضايا سياسية، أمنية، علائقية، اجتماعية وغيرها). فإذا لم تكن تلك البرامج/المناهج خاضعة لرقابة دائمة من قبل الجهات الرسمية اللبنانية المعنية بالمناهج، فقد نواجه حينها خطرًا حقيقيًّا لا تُحمد عقباه.
4- واعتبر الباحثون أن المناهج الوطنية تناط بها مسؤولية بناء اللُحمة المجتمعية وتكافؤ الفرص لجميع المتعلمين في الوطن. فان المدرسة جهاز من أجهزة الدولة خصوصا في البلدان التي ما زالت لديها قضية مفتوحة أو خطر كامن، ولبنان يشكل أحدها. وأكدوا ان معادلة البكالوريا الدولية بالبكالوريا اللبنانية، في الوقت الحاضر، ضرب للمبدئين المذكورين. فهي بالدرجة الأولى تغيّب مفهومي الاصالة الوطنية والانتماء، وتضرب مبدأي العدالة والديمقراطية التي ننادي بهما للجميع من دون تفرقة لتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص، فحيازتها ليست في متناول الجميع، أقلّه لجهة كلفتها المالية العالية. وقد نكون بذلك نسهم من دون أن ندري في زيادة الفقير فقرًا ومعاناةً والميسور يسرًا وراحةً.
5- أما من ناحية المواد التعليميّة، فقد فنّد الباحثون بطريقة علمية دقيقة الفوارق في كل مادة علمية وأدبية واجتماعية واقتصادية وفلسفية ورياضية وغيرها وأجروا مقارنات مفصلة بين النّظامين، وتوقفوا عند عددها. فإن المنهج اللّبناني يعتمد إلزاميّة دراسة من 9 إلى 12 مادّة في كلّ سنة بحسب فروع الشهادة الثانوية، في حين أنّ برنامج البكالوريا الدّولية يعتمد آليّة اختيار 6 مواد كحدّ أقصى (ثلاث مواد إلزامية ومشتركة) ما يطرح تساؤلات عديدة حول جدوى المقارنة بين النّظامين والتهافت الذي يمكن أن يحرزه هذا البرنامج على حساب المنهج الوطني.
6- وتوقف الباحثون عند تدريس اللغات حيث تصبح اللغة العربية الأم غير أساسية، مع غياب كلّي لمعايير اللّغة المعتمدة في النّصوص أو في التّحليل، أو في التّراكيب، أو في تقنيّات الصّرف والنّحو أو غيرها من المعايير الّتي لم نعثر عليها في هذا البرنامج.
وفي ما يتعلق بمواد الاجتماعيّات، رصد الباحثون إشكاليات في محتوى مادة التربية الوطنية والتنشئة المدنية. هناك بعض المحاور المشتركة لا سيما تلك المتعلقة بالقيم العالمية ولكن يوجد العديد من المفاهيم والقيم الوطنية التي لم يتم التطّرق اليها.
يولي برنامج البكالوريا الدولية اهتماماً بدراسة النصوص العالمية المنوّعة لا تراعي الأطر الوطنية اللبنانية وقد تناقضها، ما يطرح تساؤلًا حول مدى تحقّق هدف اندماج المتعلّم المواطن في مجتمعه في كافّة المستويات. ولفت الباحثون إلى انه مطلوب إلى متعلم برنامج البكالوريا الدّوليّة تعلّم مادّة اجتماعيّات واحدة في حين أنّ المتعلم في التّعليم العامّ في لبنان يدرس إلزاماً كلّ مواد الاجتماعيّات : التّربية الوطنيّة والتّنشئة المدنيّة والاجتماع والاقتصاد والفلسفة بالإضافة إلى التّاريخ والجغرافيا.
مطلوب كذلك إلى متعلم برنامج البكالوريا الدّوليّة تعلّم مادّة علميّة واحدة في حين أنّ المتعلم في التّعليم العامّ في لبنان يدرس إلزاماً كلّ مواد العلوم وفي مختلف الفروع (علوم الحياة والفيزياء والكيمياء)
وفي حين يتبيّن أن محتوى برنامج الرّياضيات يكاد يكون متطابقًا في البرنامجين إلّا أنّ مادّة الرّيّاضيات ليست إلزاميّة في برنامج البكالوريا الدوليّةويمكن للتّلميذ اختيار مادّة المعلوماتيّة بدلًا منها. وهذا الأمر قد يؤدي للتهافت على هذا البرنامج نظرا لمرونته على حساب المنهج اللبناني. الامر الذي قد يخلق تفاوتًا بالفرص وتصبح حظوظ النّجاح لبعض المتعلّمين الميسورين أعلى بكثير من سواهم، غير القادرين مادّيًّا .ناهيك عن المفارقات التفصيلية لجهة التحضير للبكالوريا الدولية التي تختلف عن مسار التعليم الللبناني، كما هي الحال ايضا في التثقيل والتصحيح المختلف.
7- وسجل الباحثون إشكاليات بالنسبة لمادة التاريخ واوضحوا أن الاختلاف بين المنهج اللبناني وبرنامج البكالوريا الدولي هو إختلاف أساسي وكبير في مادة التاريخ. فإن المنهج اللبناني يهدف إلى تكوين متعلم يتمتع بروح المواطنية والقومية. أما في المنهج الدولي، فإن تاريخ لبنان بكل حقباته غائب عن الموضوعات المدرجة للاختيار، فالمتعلم يختار موضوعين من أصل ستة مواضيع يجري حولهما أبحاثًا وينشئ موضوعًا. ومن هنا نرى أن في هذا الأمر محاذير كثيرة، إذ أن المعلومات والأبحاث تخضع لرأي الأستاذ المشرف، ولمصدر المعلومات المستقاة منه. الامر الذي قد يؤدي في الظرف الراهن إلى خلق أفكار وقناعات مختلفة أو مخالفة لمبادئ وطنية وبنود دستورية.
8- اضافة الى كل ما ورد، اشار الباحثون ان مباراة الدخول إلى كلية الهندسة في الجامعة اللبنانية مثلا، تعتمد على اختبارات في مواد علميّة منوّعة ولاسيما الرّياضيات والفيزياء والكيمياء وتفرض معدّلات معيّنة في هذه الموّاد في المرحلة الثّانويّة. كما تتضمّن مباريات الدّخول إلى الجامعات الخاصّة الأخرى على سبيل المثال: الطّبّ أو الصّيدلة امتحانات دخول في مواد علوم الحياة والفيزياء والكيمياء، وهذا يشكل عائقًا أمام خريج برنامج البكالوريا الدولية الّذي يكون قد انتقى مادّة واحدة من تلك المواد. أضف إلى ذلك حاجته إلى العودة لانتقاء في المواد pre-requisite courses الّتي لم يخترها في المدرسة لكي يتمكّن من إكمال اختصاصه بنجاح، مما يكبّده أعباء مالية إضافيّة ويشكل عثرات في بعض المسارات الجامعية واجتياز امتحانات الدخول اليها. ألن تشكلّ كل هذه العقبات حافزاً إضافيّاً لتوجّه خريج البكالوريا الدوليّة الى التخصّص في الخارج وانخراطه في المجتمع المضيف ؟ ما يؤدي الى الهجرة الدائمة خاصّة ان البرنامج يكون قد جهّز الخريج للانخراط بالعولمة بعيدا عن الانتماء الوطني والتعلّق بالهويّة الوطنيّة؟
9- وتوقف الباحثون عند معادلة البكالوريا الفرنسية بالبكالوريا اللبنانية التي تمّت عام 1993، أي قبل البدء بخطّة النّهوض التّربوي، والتي استندت آنذاك على اتفاق وقّع بين دولتين وأقرّت المعادلة بالاتجاهين على حد سواء، ما حفظ سيادة لبنان وكرامة الشّهادة الوطنية. ناهيك عن نقاط التشابه الكثيرة التي كانت تقرّب بين الشهادتين في تلك الحقبة. وتسآءلوا مدى مراعاة هذه الاتفاقيّة راهناً الابعاد التي سبق ذكرها! أو أصبح من المستحسن اعادة النظر بها!
10- وتساءل الباحثون عن جدوى طرح هذه المعادلة في الوقت الذي بدأ فيه المركز التربوي إعداد خطة شاملة لتطوير المناهج اللبنانية وتحديثها لمواكبة الفورة العلميّة والتكنولوجيّة والرقميّة ؟ فما هو السبب لطرح هذه معادلة البكالوريا الدولية في هذا الوقت بالذات؟ علماً أن الموضوع قد سبق أن طرح في بداية الالفيّة الثالثة أي منذ حوالي 10 سنوات، وقد رفضت المعادلة في حينه من الكثيرين من القطاع التربوي اللبناني. ما الذي تغيّر في مناهجنا منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، ليصبح ما كان مرفوضا تربويا مقبولا ؟!
11- أخيرا، بالرغم من ثنائنا على برنامج البكالوريا الدولية، واهتمامنا به، وتقاطعنا معه الى حد ما في تصورنا في مشروع تطوير المناهج، غير أن المركز التربوي للبحوث والانماء حريص على تكوين المتعلم اللبناني المتمسّك بهويته اللبنانية وانتمائه العربي ومواطنيته الفاعلة التشاركيّة والمحافظ على عادات مجتمعه اللبناني وتقاليده وتراثه، المنفتح على العالم المشارك في تطوير الحضارة العالميّة؛ وهو حريص كذلك، على تجنّب تحويل أبنائنا إلى "أفراد في القرية الكونيّة" على قياس العولمة الفردانية والفوضى المنظمة التي تخدم مراجع فئوية محددة. ويعتبر المركز التربوي أنّه في الوقت الراهن، تعترض هذه المعادلة معوقات عديدة قد يسهل تخطيها مع تطوير المناهج الوطنية. كما ويعتقد أن كل عمل متسرّع محكوم عليه بالفشل المسبق ما لم تحدد المعايير والمستلزمات الأساسية لانجاحه.