وجهت رئيسة المركز التربوي للبحوث والإنماء الدكتورة ندى عويجان كلمة إلى عائلة المركز التربوي وإلى العائلة التربوية الكبرى في لبنان، وذلك لمناسبة حلول العيد السادس والأربعين لتأسيس المركز التربوي، جاء فيها :
يطفئ المركز التربوي للبحوث والإنماء شمعته السادسة والأربعين في العاشر من كانون الأوّل 2017، مواصلاً بذلك مسيرة عطائه المستمر، ونضجه المثمر والراسخ في خدمة التربية في لبنان وفي محيطه. مقابل المحتفين بالذكرى السعيدة من أهله وأصدقائه، تقف قلّة من المشكّكين في دور هذه المؤسسة التي سمّاها معالي وزير التربية والتعليم العالي الأستاذ مروان حمادة "عقل التربية في لبنان"، وتطالب صراحة بإلغائه وشرذمته بتوزيع مهامه على دوائر متعددة في وزارة التربية.
من هو المركز التربوي؟ ما مهامه؟ ما دوره وما الجدوى من وجوده؟ سؤال جوابه صرخة عالية :
لو لم يكن موجودا لكان علينا إيجاده.
المركز التربوي للبحوث والإنماء "هو مؤسسة عامة ذات شخصيّة معنويّة..." بهذه العبارة يبدأ قانون إنشاء المركز الموضوع موضع التنفيذ بالمرسوم رقم 2356 تاريخ 10/12/1971 والمراسيم التطبيقيّة له، لا سيما المرسوم رقم 3087 تاريخ 11/4/1972، حيث يرد تفصيل المهام المنوطة بالمركز والعبارة التي تؤكّد أنّه "يتمتّع بالاستقلال المالي والإداري". هنا يكمن سرّ قدرة المركز على التحرّك بفاعليّة، في خدمة التربية وتطوير المناهج، وتتجلّى بالمقابل مسؤولية المؤتمنين عليه في الأداء وحسن اختيار الأشخاص، وإدارة الموارد والقدرة على المبادرة لتحريك الركود التربوي، واستكمال عمليّة النهوض والإنماء.
هذه الاستقلالية بالذات، تسمح للمركز بالتفكّر في الشأن التربوي بعقل بارد محلّل، ناقد، بعيداً عن ضغط القضايا الراهنة الملحّة، وإدارة الممارسة التربويّة اليومية. وتسمح له بجمع المعطيات عن الواقع، وعمليات التشخيص والتحليل والتخطيط والاستشراف، تمهيداً لكلّ عمل تغييري وتطويري وإنمائي في المجال التربويّ.
من هنا، يستعمل المركز التربوي كل ما لديه من صلاحيات، وإمكانيّات بشرية ومادّية للقيام بمهامه. ملتزماً، بلا رجوع، عصرنة المناهج التربوية وتطويرها، كي تصبح مناهج مرنة ورشيقة وتفاعلية، طريقاً إلى تنمية الإنسان والمجتمع. وسينتقل المركز إلى "خطّة ترسيخ الإنماء التربوي المستدام" بتفكير ناقد دائم اليقظة، ويحرص على الإبداع. فالمنظومة التربوية قد أصبحت ببعدها الكلاسيكي الصرف، في الألفيّة الثالثة، غير قادرة على تلبية حاجات سوق العمل التي تفرض إجادة مهارات جديدة، ما يستوجب تهيئة معاصرة للموارد البشرية لكي ننخرط في أساليب جديدة للتدريس من خلال نظام يحدد دورا جديدا للمدرسة في بناء جيل جديد من المتعلّمين، يكونون شركاء في بناء معرفتهم وتحديث مهاراتهم، ومن ثم شركاء في بناء الوطن. فالأنظمة التربوية في أي بلد متقدم تتمايز في الأهداف والوسائل بحسب طبيعة المنطقة وحاجات أهلها إلى التنمية. وذلك بناء على إطار وطني للمؤهلات تشارك في بنائه المؤسسات التربوية والجامعات وقطاعات الإنتاج وسوق العمل. لذا فإننا منفتحون على كل الإسهامات البناءة لرفد هذه الورشة الكبرى، ولننطلق بها بكل شجاعة وإقدام وعقل منفتح، يحدونا هاجس أساسي هو وضع مناهج تحض على التفكير والتحليل والبحث والإستنتاج، وتحرّر المتعلم من دوره كمستهلك للمعرفة لتجعله شريكاً ومنتجاَ للمعرفة. فإن تنمية المتعلّم اللبناني ثروتنا الفريدة ورأسمال لبنان الأوّل في التنمية المستدامة
وتصويبا للأنظار على أهميّة فهم دور المركز التربويّ في قيادة عمليّة تطوير المناهج، ومسؤوليتّه في إرساء الشراكات اللازمة، والتنسيق مع المرجعيّات التربوية في القطاعين الرسمي والخاص لا بد في البداية من التنبّه الى اسمه "المركز التربوي للبحوث والإنماء" الذي يدل الى أولى مهامّه:
1) الأبحاث والإحصاءات التربوية.
2) الانماء التربوي من خلال الخطط التربوية واللجان العاملة في حقل التخطيط.
3) المناهج الدراسية (بما في ذلك إنتاج الكتب المدرسية والمنشورات والوسائل التربوية، وإقرار نمط أسئلة الامتحانات الرسمية ومتابعة أعمال اللجان الفاحصة).
4) التدريب لجميع العاملين في جميع مراحل التعليم وحقوله (ما قبل الجامعي) مع اقتراح الشروط الواجب توافرها في المرشّحين.
5) اقتراح الشروط الفنيّة والصحيّة الواجب توافرها في الأبنية المدرسيّة والتجهيزات التربوية.
6) القيام بأعمال التوثيق التربوي وتنظيم مكتبة تربوية مركزية.
من مهام المركز التربوي أيضا، تشكيل فريق بحثي مختص، واصدار مجلّة محكّمة، وكل عمل تربوي يصبغ بالإبداع والأفكار والانجازات. كما واجراء اختبارات لأي جديد يُقترح إدخاله في المنهج من حيث المحتوى وطرائق التعليم والتعلّم وأساليب التقويم، قبل تعميمه على الصعيد التربوي الوطني. ففي مختبرات مراكز الأبحاث التربوية تُبنى النماذج التربوية الجديدة، وتخضع للتجريب والتقويم والتعديل، قبل أن تُنشر وتوضع في مرمى التدريب والتطبيق. فتطوير المناهج لا يُرتجل، بل يُبنى، ويُحصّن في مراكز البحث التربوي، ويوضع له أطر مرجعيّة وأدلّة، يتدرّب على استخدامها المشاركون في هندسة المناهج وصياغتها، وترجمتها إلى كتب وأنشطة ورقية ورقمية. تجدر الاشارة أن "الأبحاث التربوية" ومشروع الاحصاء التربوي الشامل، المنوطة بالمركز التربوي قانونا، تشكل حجر الزاوية في كلّ إنماء تربوي. وهذا بالتحديد ما تصبو بعض الجهات الى سلبه منه، ضاربة بعرض الحائط كل النصوص الدستورية والقانونية.
أمام هذه المهام التي سبق ذكرها، يعاني المركز التربوي من شغور في مجلس الأخصائيين وفي فريق العمل الدائم من حيث العدد والاختصاصات المتعددة والجديدة، ومن نقص في التجهيزات في جميع المكاتب والدوائر والاقسام. فعلى مدى سنوات عدّة، أُهمِل المركز التربوي، وفُرِّغ عن قصد وعن غير قصد. وعلى مدى سنوات، لم يدعم لا بشريا ولا ماديا. وخلافا لذلك، كثر في الفترة الاخيرة، استحداث دوائر تقوم بمهام موازية لمهام المركز التربوي في أماكن أخرى، مُدّت بجميع أنواع الدعم من أموال القروض والهبات ! وكأننا نقول إن لم نستطع الغاء المركز التربوي، فلنفرغه من مستخدميه ولنحاصره ماديا فلا يتمكّن من اتمام مهامه، ولننشئ مراكز مدعومة تقوم بمهام المركز الأساسية، فينطوي على ذاته ويختنق من عدم قدرته على التحرّك. تتعدد الروايات وتبقى الحقيقة الثابتة وهي أن المركز التربوي للبحوث والانماء، مثل طائر الفينيق يحترق ليولد من رماده فينيق، جديد متجدد.
أن المركز التربوي يحتاج إلى كفايات وخبرات بشرية متنوعة. ويحتاج كذلك، الى توفر الاعتمادات اللازمة للقيام بالمهام الكثيرة الموكلة اليه. وعلى هذا الصعيد لا بدّ أولا من اخراجه من المعادلات والتجاذبات السياسيّة، ومن استصدار بعض المراسيم والقوانين اللازمة التي تسهّل عمله ثانياً. وثالثاً خلق جو سياسي جدّي مؤمن ومدرك لأهميّة هذه المؤسسة الرائدة، ومتبنّي لدعم المركز التربوي ماديا وبشريا من المصادر المتعددة، من خلال موازنته السنوية أو من خلال قروض ميسّرة وهبات، مع الحرص على أن لا تكون هذه الاخيرة مشروطة أو تتعارض مع القوانين والمراسيم اللبنانية، أو تسيء إلى سيادة لبنان وسيادة القرار الوطني أو مستخدمَة لانتزاع صلاحيات المركز التربوي منه.
ولا بد كذلك، من رسم خارطة الطريق لبلوغ هذه التطلعات والإنطلاق من الإنجازات والنجاحات السابقة ، والشراكة الفعلية والمسؤولة مع وحدات وزارة التربية والتعليم العالي والقطاع الخاص، ومؤازرة المنظمات الدولية التي تعنى بالتربية.
وعلى هذا المنعطف الحاسم في مسيرة الإصلاح التربوي، ومع انطلاق مشروع تطوير المناهج، وبمناسبة العيد السادس والأربعون لتأسيس المركز التربوي في خضم تطورات وطنية وإقليمية ودولية تطوّقنا من كل جانب، أود أن أتوجه بتحية تقدير ومحبة وعرفان إلى جميع الشخصيات التي تعاقبت على رئاسة المركز التربوي، وقد عمل كل منهم بكل جهد ومثابرة من أجل التربية وبحسب الإمكانات البشرية والمالية والقرارات السياسية المتوافرة له.
كما أحيي جميع الذين عملوا ويعملون في المركز التربوي على المستويات التربوية والإدارية والإستشارية كافة، وأهنئهم بذكرى تأسيس هذه المؤسسة الوطنية المتمايزة بدورها وبالمسؤوليات الملقاة على عاتقها، وأعاهدهم على متابعة الجهد بكل زخم ومسؤولية من أجل خدمة التربية وأجيال المتعلمين في لبنان، وتوجيههم نحو الطرق الأنجح لتحقيق الأهداف وبلوغ الانجازات الوطنية المرجوّة. فنحدد الهوية والإنتماء ضمن مناخ من المساواة والحرية والديموقراطية والحوار والإنفتاح وانتزاع بذور التعصب، ونبذ الكراهية وتعميق المحبة وترسيخ الممارسات الفضلى في احترام الآخر وتطبيق القوانين والمواثيق الوطنية.
المركز التربوي في عيده السادس والأربعين مؤسسة ناضجة ومفعمة بالحيوية والإنتاج، تفتح قلبها لجميع المخلصين الذين أخذوا على عاتقهم مهمة التجديد التربوي. فلنتمنى للمؤسسة دوام الإزدهار لأن نجاحها يعني نجاحكم ويعني أيضا نهوض لبنان بقواه البشرية، ونحن على يقين بأن التنمية البشرية هي عصب كل تنمية، وأن استدامة التنمية تكمن في التجدد التربوي المستمر.
كل عام والمركز التربوي ولبنان بخير، معاً سنستمر في بناء العقل اللبناني ولبنان.
"وبالتربية نبني معا"
رئيسة المركز التربوي للبحوث والانماء بالتكليف
د. ندى عويجان