صدرت مطلع الشهر الحالي النتائج الرسمية لاختبار PISA 2018 العالمي، الذي يعتبر أحد المؤشرات العالمية الأكثر شمولية وموثوقية لقياس جودة التعليم وفعاليته في مجالات القراءة والرياضيات والعلوم، ويستخدم أيضًا كأداة فعالة تستخدمها البلدان لتطوير سياسات التعليم الخاصة بها. ويوضح هذا المقال ماهية اختبار PISA ونتائج لبنان بالمقارنة مع المعدل العالمي للدول ومعدلات الدول العربية المشاركة، وتحليل هذه النتائج وتحليل تصنيف الطلاب المشاركين، والاضاءة على العوامل الاجتماعية، ومن ثم عرض للخطة الوطنية التي سيعتمدها المركز بهدف رفع مستوى لبنان في قائمة الدول المشاركة في الاختبار، من ضمن الخطة الاستراتيجية الوطنية لتطوير المنظومة التعليمية بشكل عام.
ما هو اختبار PISA؟
هو اختبار يهدف الى تقييم مستوى ونوعية معرفة الطلاب لمحتوى المواد، إضافة الى قدرتهم على تطبيق معرفتهم بشكل خلاق، خاصة في سياقات غير مألوفة، لحل مشكلات عملية محددة، عادة ما يواجهها الطلاب في حياتهم اليومية، وقدرتهم على إعادة صياغة ما يقرؤونه، وتوسيعه وتحليله، والتفكير ملياً وعميقاً في معناه ومغزاه، وليس فقط لامتحان ما يتذكرونه من معارف ومعلومات. ويتضمن الاختبار، إضافة الى مواد القراءة والرياضيات والعلوم، على قسم اجتماعي حول البيئة التعليمية. كما يتم تقييم إضافي للطلاب في مجالات مبتكرة مثل حل "المشكلات بشكل تعاوني " (2015) و"الكفاءة العالمية" (2018) و"التفكير الإبداعي" (2021).
العينة والتحضيرات
ويخضع للاختبار كل 3 سنوات عينة من الطلاب بعمر 15 سنة من عدة فصول دراسية ومدارس من كافة المستويات الاكاديمية والاجتماعية. وقد شارك لبنان مرتين في 2015 و2018، حيث خضع في المرة الثانية 5,614 طالباً من 320 مدرسة رسمية وخاصة بنسبة 57.2% من المدارس الرسمية والباقي من المدارس الخاصة.
وعادة ما يتم تصنيف المدارس الرسمية والخاصة بحسب التوزيع الجغرافي والمستوى والأكاديمي والاقتصادي الاجتماعي. ويقوم ممثلو PISA باختيار عينة تمثل كافة المستويات والمناطق لمحاولة تمثيل عادل لمستوى التعليم في البلاد. وقد تؤثر عوامل عديدة على صحة تمثيل هذه العينة للمستوى الحقيقي للتعليم، مثل رفض المشاركة من قبل بعض المدارس المتميزة، أو استبعاد المدارس ضعيفة الأداء، أو تغيّب طلابها عن المشاركة في الاختبار، كما يحصل في عدد من الدول المشاركة. في المقابل، تعمد الكثير من هذه الدول الى تدريب الطلاب والمعلمين بشكل كافٍ على نوع الأسئلة المتوقعة وطريقة التعامل معها خلال الاختبار.
نتائج طلاب لبنان
وقد جاءت نتائج عينة الطلاب اللبنانيين ومركز لبنان من بين 77 دولة مشاركة كما يلي:
- معدل العلامات في القراءة: 353 (المعدل العالمي: 455).
وحل لبنان في المركز 73.
- معدل العلامات في الرياضيات: 393 (المعدل العالمي: 460).
وحل لبنان في المركز 67.
- معدل العلامات في العلوم: 384 (المعدل العالمي: 460).
وحل لبنان في المركز 71.
لا شك أن هذه النتائج ضعيفة وغير مرضية، خاصة لما تتمتع به المنظومة التربوية في لبنان من تميز وعراقة. وتعود أسباب هذه النتائج جزئياً في الشكل، الى مدى دقة تمثيل عينة المدارس المشاركة لواقع التربية في لبنان، والى عدم التحضير الكافي لما يجب أن يتوقعه الطلاب في هذا الاختبار، وفي المضمون الى تركيز المناهج الحالية بشكل أساسي على تعميق معرفة الطالب للمادة الدراسية، وبشكل أقل على تزويده بمهارات التفكير النقدي والابداعي وحل المشكلات غير المألوفة بطرق مبتكرة وفعالة والتحليل المنطقي السليم والتعبير الواضح الدقيق والتطبيق العملي المرن، وهي ما تهدف المناهج الجديدة التي بدأ المركز التربوي للبحوث والانماء بتطويرها وتدريب المعلمين على اعتمادها في السنوات القادمة.
المقارنة مع الدول العربية
شارك في اختبار PISA 2018 الى جانب لبنان الدول العربية التالية: الامارات العربية المتحدة، الأردن، قطر، المملكة العربية السعودية والمغرب. وقد حل لبنان أخيراً بين هذه الدول في القراءة والعلوم. وحل رابعاً في الرياضيات قبل المملكة العربية والسعودية والمغرب. وتجدر الإشارة أن نتائج كل الدول العربية هي أقل من المعدل العالمي. وهذا مؤشر إضافي لضرورة تطوير المنظومة التربوية في لبنان والاستفادة من نتائج اختبار PISA لاستعادة دوره الريادي في العالم العربي والعالم، إذ أن الرأسمال البشري هو أغلى ثروة يملكها لبنان ولا يجوز التفريط بها والسماح بتراجع مستواها.
تصنيف أداء الطلاب اللبنانيين
تصنف نتائج الاختبار الى عدة مستويات بحسب علامات كل مادة، ويتم تصنيف أداء الطلاب الى ثلاثة أنواع كما يلي:
- معدل المواد الثلاث للطلاب اللبنانيين: 63.3% أداء ضعيف جداً، 35.6% أداء متوسط، 1.1% أداء قوي جداً.
- معدل المواد الثلاث لكافة الدول المشاركة: 35.1% أداء ضعيف جداً، 58.5% أداء متوسط، 6.4% أداء قوي جداً.
وهذا يعني أن على المنظومة التربوية اللبنانية تخفيض نسبة الطلاب ذوي الأداء الضعيف جداً (بنقل حوالي 30% من الطلاب الى مستوى الأداء المتوسط) وزيادة نسبة الطلاب ذوي الأداء القوي جداً (بحوالي 5%) إذا ارادت اللحاق بالمعدل العالمي، وهذه أهداف قابلة للتحقق.
العوامل الاقتصادية الاجتماعية
المدارس: في مقارنة توزيع أداء الطلاب ما بين المدارس ضعيفة التجهيز والمدارس ذات التجهيز الجيد، يظهر أن نسبة الطلاب ذوي الأداء الضعيف جداً هي مرتفعة في المدارس ضعيفة التجهيز. وفي العينة المختارة من المدارس اللبنانية، هناك 16% من المدارس ضعيفة التجهيز، و7% من المدارس ذات التجهيز الجيد.
المعلمين: يقول مدراء المدارس اللبنانية ان 89% من معلمي المدارس هم من حملة الشهادات. وبالتالي ما يحتاجونه هو التدريب اللازم للتحول من الطرائق التقليدية للتدريس الى الطرائق الحديثة المرنة واستخدام المناهج المطورة والتجهيزات والتقنيات المعاصرة، التي تحرر المعلم من النقل والتكرار والتلقين، وتسهم في ترسيخ السمات المعاصرة للمتعلم التي حددها المركز التربوي للبحوث والإنماء كأساس للمناهج الجديدة.
الطلاب: أظهرت نتائج الطلاب اللبنانيين أن لا فروقات ظاهرة بين الذكور والاناث في معظم المواد. ويميل الذكور للتخصص في الهندسة، فيما تميل الإناث للتخصص في مجالات الصحة. بينما نسبة الذين يطمحون للتخصص في مجال المعلوماتية والتكنولوجيا ضئيلة عند الفئتين. ويشير ذلك الى تقص كبير في التوجيه والتوعية لأهمية هذه الاختصاصات، خاصة إذا كان الاستراتيجية الاقتصادية الجديدة في البلاد تتجه الى التركيز على قطاعات اقتصاد المعرفة. ويعبر حوالي 60% من الطلاب اللبنانيين عن رضاهم عن البيئة التعليمية، وحوالي 82% منهم عن سعادتهم في حياتهم المدرسية والعامة. وهذا يشير الى مستوى عالٍ من التفاؤل عند الأجيال القادمة، برغم المآسي التي يمر بها البلد. وتشير النتائج أن 41% من الطلاب اللبنانيين يمتلكون عقلية النمو، أي القابلية المباشرة لامتلاك مهارات التفكير العالي، مقارنة مع نسبة 56% من طلاب الدول المتطورة. وهذا مؤشر جيد، يؤسس لتطوير النسبة مع التطوير المناسب للمناهج وطرائق التعلم والبيئة التعليمية.
الخطط الوطنية للتطوير والاستجابة
أ- خطة الاستجابة والتحضير لاختبار PISA
يعتبر المركز اختبار PISA كأحد المؤشرات الرئيسية لقياس تطور الأداء والفعالية. بناء عليه، وضع المركز خطة وطنية للتطوير والاستجابة لتعزيز أداء الطلاب اللبنانيين في هذا الاختبار، بهدف رفع مستوى المنظومة التربوية اللبنانية الى مركز ريادي على المستويين العربي والعالمي. وتتضمن هذه الخطة الوطنية عدة محاور، كما يلي:
على مستوى التوعية حول أهمية الاختبار: نشر الوعي حول أهمية الاختبار وضرورة رفع مستوى لبنان لبلوغ مركز ريادي على المستويين العربي والعالمي، وإنشاء لجنة وطنية لمتابعة تطبيق الخطة الوطنية، وتوجيه مدراء المدارس للتركيز على أهمية التحضير للاختبار.
على مستوى الطلاب: تهيئة الطلاب وتدريبهم على نوع الأسئلة وهيكلية الاختبار وتوقيته والتركيز على مهارات التفكير العالي والنقدي والابداعي والتحليل المنطقي والتعبير الصحيح وحل المشاكل غير المألوفة، والتحضير للاختبارات التحضيرية والرسمية القادمة، وتنظيم اختبار وطني مشابه لكافة الطلاب وليس فقط للعينة التي يتم اختيارها للاختبار الرسمي، بهدف تعميم الفائدة والمساهمة في تطوير المنظومة التربوية بشكل عام.
على مستوى المعلمين: تدريب المعلمين، خاصة معلمي الصف الثامن والتاسع والعاشر، لتطوير اساليبهم التعليمية ومقاربتهم لشرح مواد اللغات والرياضيات والعلوم، وتضمينها الكفايات والمهارات المعاصرة المطلوبة في سوق العمل في هذا العصر، وتزويدهم بالموارد والوسائل والأنشطة المطلوبة، لتعزيز عملية التعليم والتعلم، وتهيئة الطلاب بشكل أفضل لاختبار PISA الرسمي. إضافة الى تضمين الدورات التدريبية الدورية التي تقدم لمعلمي مواد اللغات والرياضيات والعلوم للكفايات والمهارات وطرق التفكير الحديثة المطلوبة.
على مستوى المدارس: تهيئة البنية التحتية والتجهيزات المطلوبة للتحول الى اختبارPISA الالكتروني، ابتداء من الاختبار التجريبي في 2020. ويتضمن ذلك تجهيز المدارس (ودور المعلمين) بالكمبيوترات اللازمة، إما بشكل دائم أو من خلال فريق متنقل في المركز. إضافة الى تشجيع المعلمين والطلاب للاشتراك في الاختبار. وتنظيم اختبار وطني مشابه للصف الثامن والتاسع لتحضير الطلاب للاشتراك في اختبار PISA الرسمي عند بلوغهم للصف العاشر، وإصدار لائحة تراتبية للمدارس المشاركة في الاختبارين الوطني والدولي، ومكافأة وتحفيز المدارس المتميزة منها.
على مستوى المناهج: أخذ نتائج وملاحظات الاختبار الدولي بعين الاعتبار خلال عملية تطوير المناهج الجديدة للإفادة من مواطن القوة وتعزيز وتخطي مواطن الضعف، يما يتعلق بالمعارف والكفايات والمهارات والموارد التعليمية والأنشطة وطرائق التدريس والمقاربات والأبحاث، خاصة في المواد ذات الصلة. وتضمين المناهج والكتب والموارد الرقمية وخطط التدريس الجديدة للأنشطة والتمارين والممارسات والأبحاث المطلوبة لتعزيز الريادة والابتكار والابداع والتفكير النقدي.
ب- الخطة الاستراتيجية العامة
وتندرج خطة الاستجابة والتحضير لاختبار PISA في سياق خطة استراتيجية طموحة لتطوير المنظومة التربوية في لبنان يعمل عليها المركز التربوي للبحوث والإنماء، بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم العالي، تقوم على أسس ثلاث:
ختاماً، يخطط المركز التربوي للبحوث والإنماء لتطبيق هذه الخطة الوطنية بشكل تدريجي لمدة عشر سنوات، حيث سيتم تطوير المناهج خلال السنوات الثلاث القادمة، تليها مرحلة تطبيقها في المدارس وتدريب المعلمين وتجهيز المدارس وتطوير البيئة التعليمية لمدة خمس الى سبع سنوات، بالتوازي مع الخطة الوطنية لاختبار PISA. وتجدر الإشارة أن الارتقاء بالمنظومة التربوية في لبنان يجب أن يكون هدف وطني استراتيجي للجميع، ولا يمكن تحقيقه الا بمشاركة فعالة ونشطة ومبادرة من كل عناصر المنظومة التربوية وبدعم واهتمام وتبني الأهل والمجتمع.