نظمت إدارة الشؤون التربوية في جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت، المؤتمر الإلكتروني المقاصدي، الذي رعاه وزير التربية والتعليم العالي الدكتور طارق المجذوب، تحت عنوان:"المؤسسات الناجحة في عملية التعلم عن بعد الدروس المستخلصة" وذلك يوم الجمعة 15 أيار 2020.
وتحدثت في الجلسة الأولى للمؤتمر رئيسة المركز التربوي للبحوث والإنماء الدكتورة ندى عويجان، وقالت في كلمتها:
"التعلّم عن بعد هي مقاربة متطوّرة وغنيّة، تتضمّن عدّة أنماط من التعليم والتعلّم، مثل الصفوف الإفتراضيّة المتزامنة أو المباشرة، التعلّم الذاتي، وإدارة التعليم والتعلّم غير المتزامن والتعاوني، الذي يوفّر بيئة للتّعلّم الرّقميّ اللّامتزامن للمتعلمين على اختلاف مستوياتهم وأنماط تعلّمهم وسرعته.
إذا اعتبرنا أن المقاربة الأنسب هي التعليم المدمج أو ال Blended Learning، أي الدمج بين التعلّم عن بعد والتعلّم التقليدي داخل الصف، كون هذه المقاربة تطال جميع المتعلّمين على اختلاف ذكاءاتهم المتعددة، وأنماط تعلّمهم وسرعته، وكون هذه المقاربة تستعين بجميع استراتيجيات التعليم سيما التعليم المتمايز، فتزيد من مستوى التفاعل بين المتعلّمين والمعلّمين بشتّى الطرق والوسائل، الإلكترونية وغير الإلكترونية، وتؤمّن بالتالي السياقيّة، والمرونة، وإمكانية الوصول إلى المعلومة وتنوّع التفاعلات،
يبقى خيار تطبيق مقاربة أو أخرى أو الإثنين معا، لإنجاح عمليّة التعليم والتعلّم، مرتبط بالظروف على أنواعها، خاصة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وبالمستلزمات المتوفرة، التقنيّة واللوجستّة، وبتمكين العنصر البشري المعني بإدارة هذه المقاربة (أي المعلّم) والمعني بالإستفادة منها والتفاعل معها (أي المتعلّم).
إنطلاقا مما تقدّم لا بد من فهم واقع وتحديات التعلّم عن بعد في لبنان بشكل عام، وبظل أزمة كورونا بشكل خاص، والإشارة الى أهمية ووظيفة منصّة "مبادرة التعلّم الرقمي" التي أطلقها المركز التربوي(منصّة تربويّة رسميّة مفتوحة)، ووضع رؤية مستقبلية قريبة المدى ومتوسطة المدى في إدخال مقاربة التعلّم عن بعد في مشروع تطوير المناهج، وإنشاء أوّل مدرسة إفتراضيّة نموذجيّة في لبنان.
دخل التعلّم عن بعد الى لبنان بحكم الأمر الواقع، ففي حين كان قبل أزمة كورونا استنسابي غير ممأسس في المدارس وعند المعلّمين، أصبح ضروري لا بل محتّم وقسري مع أزمة كورونا.
أطلقت وزارة التربية والتعليم العالي خطة التعلّم عن بعد، ومعها أطلقت تجربة الصفوف الافتراضيّة المباشرة والدروس التلفزيونيّة المسجّلة، وأطلق المركز التربويّ للبحوث والإنماء منّصة "مبادرة التعلّم الرقمي"، للقطاعين الرسمي والخاص. كما أطلقت العديد من المدارس الخاصّة مبادراتها الذّاتيّة في التعلّم عن بعد. كل ذلك تم في ظروف استثنائيّة وبغياب جهوزيّة شاملة على جميع الأصعدة والمستويات، وبغياب معايير متجانسة وثقافة جامعة لمأسسة هذا النوع من التعّلم. وقد واجهت هذه التجارب والمبادرات تحديّات عديدة انعكست من خلال التفاوت في الاستجابة لهذه الأزمة، تمحورت معظمها حول:
- غياب الجهوزيّة الشاملة عند المعلّمين والمتعلّمين على المستوى التقني والأكاديمي،
- نقص كبير في توفّر المحتوى الرقمي التفاعلي لتغطية المنهج،
- عدم توفّر البنى التحتيّة الّلازمة في جميع المدارس،
- عدم توفّر تجهيزات (كمبيوتر، IPads، وغيرها ...) للمعنيين (معلمين ومتعلّمين)،
- كلفة الانترنت ونوعيته وتوفّره،
- وانقطاع الكهرباء وغيرها.
من هنا يمكن القول أن تجربة التعلّم عن بعد نجحت الى حد ما، فقد تفاوتت فعاليّتها وأهميّتها بحسب المدارس ومقوّماتها، وبحسب المعلّمين وقدراتهم، وبحسب المتعلّمين ومشاركتهم الفاعلة (أي مستوى التركيز والأداء)، خاصة وأن التعلّم عن بعد ارتكز في هذه المرحلة على نمط أوحد من الأنماط الي سبق ذكرها، هو الصفوف المتزامنة، وهي عادة الأكثر تأثراً بضعف وكلفة الانترنت، والحاجة الى طرائق تعلّمية مبتكرة لم يكن المعلمون والمتعلّمون قد تدرّبوا عليها. ولم يرتكز التعلّم عن بعد في هذه المرحلة على التعلّم الذاتي أو على إدارة التعلّم غير المتزامن والتعاوني.
أما بالنسبة الى منّصة "مبادرة التعلّم الرقمي"، التي أطلقها المركز التربوي للمعلّمين والمتعلّمين في القطاعين الرسمي والخاص، فهي ترتكز على التعلّم الذاتي، والتعلّم المتزامن المباشر، وإدارة التعلّم غير المتزامن والتعاوني، وتتضمّن وسائل تربويّة متنوّعة من المكتبة الرقميّة التفاعليّة، والدروس التلفزيونيّة المسجّلة، والمنصّة التعليميّة، وبيئة الإنتاج والعمل التعاوني والصفوف الافتراضيّة المباشرة. هي منصة فريدة من نوعها في لبنان وفي المنطقة، تتيح حتى للأهل، متابعة تطوّر أبنائهم ومساعدتهم في التّأقلم مع هذا النّمط الجديد من التّعلّم. هي غنيّة ومتنوّعة توفّر وسائل تعليمّة مختلفة، وهي جاهزة للإستعمال وبتّطوير مستمرّ لتلبّي حاجات المجتمع التّربوي. ويمكن الوصول إليها على العنوان التّالي: dl.crdp.org
- تتضمّن المكتبة الرّقميّة الّتي تمّ تطويرها، دروسًا وموارد رقميّة تفاعليّة، من أهمّ المصادر العالميّة والمحلّيّة، تم تشبيك أكثر من 3000 درس ومورد رقميّ تفاعليّ مع مواضيع موادّ المنهج اللّبنانيّ بحسب الصّفّ والمادّة والفصل التّعليميّ، بخاصّة لموادّ العلوم والرّياضيّات، هذه الدّروس مشروحة بشكل تفاعليّ شيّق، يعمّق فهم الموضوع ويعزّز كفايات التّفكير العليا والتّعلّم الذّاتيّ والبحث العلميّ. كما تمّ وصل هذه المكتبة بعدد من المكتبات المشابهة في لبنان والعالم، لتوفير بيئة غنيّة وآمنة، ولتأمين مصادر التّعلّم الموثوقة بشكل سهل وعالي المستوى. استضافت هذه المنصّة أيضًا مجموعة من الدّروس التلفزيونيّة المسجّلة لصفوف الشّهادات بحسب الشّهادة والمادّة والفصل التّعليميّ. يستطيع المعلم الاستعانة بالدّروس المسجّلة والموارد الرّقميّة التّفاعليّة المتوافرة في المكتبة الرّقميّة لاستخدامها خلال تقديمه للصّفوف الافتراضيّة. كما يستطيع المعلّم تحديد عدد منها من خلال نظام ادارة التعلّم mCourserlb كفروض وواجبات لطلّابه، ليقوموا بالتّفاعل معها وبتحضيرها قبل أو بعد الصّفّ الافتراضيّ، وبمتابعة تطوّر وتفاعل الطّلّاب بشكل دائم، بحيث يزوّد المعلّم بتقارير تفصيليّة حول ذلك، مما يبقيه على بيّنة من أداء طلّابه، وذلك من خلال نظام إدارة التّعلّم الذي يصحّحها تلقائيًّا.
وإضافة إلى المكتبة الرّقميّة، والدّروس التّلفزيونية المسجلة، ونظام إدارة التّعلّم، والصفوف الافتراضية، تقدّم المنصة الجديدة لمبادرة التّعلّم الرّقميّ تطبيقات عدّة للعمل والإنتاج التّعاونيّ، من خلال منصّة G Suite خاصّة بالمركز التّربويّ من شركة غوغل. وتشتمل على مروحة واسعة من التّطبيقات، مربوطة بنظام الصّفوف الافتراضيّة. يمكن من خلالها إنتاج جميع أنواع المستندات وحفظها ومشاركتها مع الآخرين.
أحب أن أذكّر أن هدف ما تمّ تنفيذه من تّعلّم عن بعد، خلال أزمة كورونا، لم يكن كبديل للتّعليم المدرسي بالكامل، بل كان في أكثر الأحيان من أجل توفير بيئة تعليميّة ووسائل حديثة لإبقاء اكبر عدد ممكن من الطّلّاب في جوّ الدّراسة، إلى حين انتهاء الأزمة وعودتهم إلى مدارسهم. وبالرّغم من ذلك، فقد تمّ تصميم منصّة المركز التربوي (مبادرة التعلّم الرقمي)، لتكون مصدرًا أساسيًّا لدعم العمليّة التّعليميّة-التعلّميّة في المستقبل حتّى بعد عودة الأوضاع إلى طبيعتها، فهذه المقاربة في التعليم والتعلّم كانت من ضمن خطّة المركز التّربويّ لتطوير المناهج الجديدة على أسس حديثة واستخدام التّكنولوجيا بشكل فعّال لرفد وتطوير المنظومة التّربويّة بشكل عام، وتعزيز الصفوف المدمجة Blended Learning.
وهذا بالضبط ما يتم العمل عليه. لا بد من دراسة الوقائع بجميع أبعادها والتعمّق بالمنطلقات العلميّة المتوفّرة، وتحديد التحديات الظاهرة وغير الظاهرة، والأخد بعين الاعتبار خبرات ومبادرات وآراء وهواجس جميع المعنيّين بالشأن التربويّ، وتحليل كل ما سبق ذكره، واستشراف مجريات الأمور وتطوّرها، ووضع السيناريوهات الممكنة، واختيار الاقتراح الأنسب والأسلم.
من هنا وفي إطار موضوع التعلّم عن بعد، من المفترض بمرحلة أولى الاستفادة مما تم انشاؤه من منصات الكترونيّة، وإنتاجه من موارد تربويّة حتى الآن، بهدف تطويره وتوحيد الجهود للعمل على توزيع عادل ومتكافئ على جميع المعلّمين والمتعلمين. وتعزيز التعليم المدمج Blended Learning ، لما له من انعكاسات إيجابية في انجاح عملية التعليم والتعلّم وتحقيق الأهداف التربوية للوصول الى المصلحة الوطنيّة العليا.
أما المستوى المتقدّم والمتميّز فيقوم على تبني المركز التربوي لفكرة إنشاء أول مدرسة إفتراضية في لبنان، تكون مدرسة نموذجيّة بإشراف المركز التربويّ للبحوث والإنماء، يمكن أن تتم مأسستها وإنشاء مراكز نفاذ مجهّزة تابعة لها، ويمكن في وقت لاحق إنشاء مدارس مشابهة لها.
فالمدرسة الافتراضيّة هي مؤسسة تربويّة كغيرها من المدارس. تعتمد الحل الرقمي الكامل عن بعد، من حيث الآليات الإداريّة، والتعلّم الرقميّ والاعتماد الأكاديمي. وتعتمد على بيئة رقميّة متكاملة، تتيح القيام، رقميّا، بكافة أعمال المدرسة التقليديّة، من أي مكان ومن أي جهاز.
ترتكز المدرسة الإفتراضيّة على بنية تشريعيّة وإداريّة، وعلى بيئة ﺘﻌﻠﻴﻤﻴّﺔ أكاديميّة تفاعليّة، وتعتمد على مقاربات وطرائق حديثة في إدارة عمليّة التعليم والتعلّم الالكتروني والعمل التعاوني، وتوفّر الأدوات الإلكترونيّة اللازمة، في جميع مراحل إدارة عمليّة التعليم والتعلّم الالكتروني، بدءا من التحضير، الى التنفيذ والتفاعل، وصولا الى التقويم واصدار النتائج، وكل ذلك بناء على مناهج وكتب وموارد تربويّة رقميّة تفاعليّة متطوّرة مدعومة أكاديميا وتقنيا من الإدارة المركزيّة للمدرسة، وقابلة للتطوير ولفتح مجالات متقدمة في الإبداع والتفكير الناقد.
هذا كلّه يتطلّب إرساء ثقافة جامعة لمفهوم التعلّم الإفتراضي والتعلّم عن بعد ويتطلّب مقومات أساسيّة أخجل أن أتكلّم عن البديهيّات منها، كـ:
- تأمين الانترنت المجاني للمواقع التعليميّة (Whitelisting) على مدار السنة،
- توفير البنى التحتيّة العامّة والخاصّة،
- توفير أجهزة الكترونيّة (كمبيوتر، IPads) لجميع المتعلّمين والمعلّمين،
- تأمين موارد تربويّة مستمرة على منصّة مبادرة التعلّم الرقمي،
- تدريب المعلّمين والمتعلّمين والعاملين في القطاع التربوي،
- دعم المدارس المتعثرة،
لم يعد التعليم والتعلّم مختصر على مجال التربية فقط من حيث المحتوى والطرائق والوسائل، فقد أصبح يرتكز على تكنولوجيا المعلومات والإتصالات وما تحقق من تقدّم في عالم الذكاء الإصطناعي وتحليلات البيانات وما هو متوقع من تقنية 5G والبيانات الضخمة Big Data. لذلك لا بد من تأمين جهوزيّة لذلك في منظومتنا التعليميّة، من بيئة الإلكترونيّة وغير ألكترونيّة ومستلزمات تابعة لها، لنؤمّن مقوّمات النجاح لمشاريعنا وفرص متكافئة لأولادنا في القطاعين الرّسمي والخاصّ.
التعلّم هو حقّ للجميع، يجب أن يبنى على مبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص".
15-5-2020